إذا كانت حرب تموز (2006) بين إسرائيل و"حزب الله" فرضت نوعاً من التغيرات على صعيد هيكلة الحزب وأدائه وعلاقاته مع أطراف محور المقاومة، جاءت الحرب السورية (2011) لتشرِّع الباب أمام موجات من التغيرات الجديدة والجوهرية التي خرج بموجبها "حزب الله" على صورة قوة إقليمية عابرة للحدود يحسب لها حساب في الداخل والخارج.
وما بين عامي 2005 تاريخ خروج القوات السورية من لبنان، و2008 تاريخ اغتيال عماد مغنية القائد العسكري لحزب الله في حي كفرسوسة بدمشق، كان النَّسق العام للعلاقة بين طهران ودمشق و"حزب الله" قائماً على أساس اعتبار الحزب مجرد متلقِّي يستقبل ما يرسل إليه من دعم وسلاح من قبل العاصمتين الإيرانية والسورية.
وما تزال المعلومات شحيحة حول المهمة التي فرضت على عماد مغنية الانتقال إلى دمشق قبل مقتله بعبوة ناسفة اعترف مؤخراً إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، بمسؤولية إسرائيل عنها، ولكن ما يكاد يكون شبه مؤكد أنه منذ اغتيال مغنية اتخذ حزب الله قراراً استراتيجياً نابعاً عن فقدانه خطوط الإمداد التي كانت تؤمنها له القوات السورية المتواجدة في لبنان، بأن يتولى بنفسه تأمين هذه الخطوط وحمايتها وهو ما فرض عليه أن يبدأ ببناء شبكة مكاتب ووحدات في الداخل السوري.
وخلال الأعوام الثلاثة التي سبقت الحرب السورية، والأعوام الأولى من عمر هذه الحرب، تولّت ثلاث وحدات رئيسية من حزب الله تنفيذ هذه الاستراتيجية الجديدة، وهذه الوحدات هي الوحدة 108 والوحدة 112 والوحدة 100.
وتعتبر الوحدة 108 الأهم والأقوى والأوسع نفوذاً بين هذه الوحدات، وربما ذلك ما دفعها إلى نقل مكتبها الرئيسي إلى العاصمة السورية. وتولت هذه الوحدة مهمة نقل إمدادات السلاح بين عواصم محور المقاومة وصولاً إلى الحدود اللبنانية. وكانت الوحدة 112 تتولى مهمة توزيع هذه الإمدادات على مستودعات حزب الله في الداخل اللبناني، بينما تولت الوحدة 100 تأمين نقل قادة ومقاتلي "حزب الله" إلى جانب الخبراء الايرانيين، ما بين لبنان وسوريا وإيران.
صداع إسرائيل
ومنذ عام 2010 أشارت العديد من التقارير الاستخبارية إلى انزعاج إسرائيل من اتخاذ حزب الله خطوة التمركز في سوريا، وتوقع بعضها أن تقوم بعملية هجومية على المواقع التي تقع تحت سيطرة الوحدة 108 في سوريا، على غرار الهجوم على دير الزور في أيلول من العام 2007، وفق تقرير نشرته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية في شهر أيلول (سبتمبر ) من ذلك العام.
وقد يكون اندلاع الأزمة السورية بما تخللها من فرص واحتمالات كثيرة لتل أبيب كي تحصل على أهدافها من دون أن تلوث يديها، هو السبب الرئيسي وراء وقف أو تأجيل مخططاتها ضد الوحدة 108.
بدوره، وجد حزب الله عند اندلاع الأزمة السورية أن تمركزه السابق في سوريا كان بمثابة الأرضية الممهدة التي استطاع البناء عليها للتعامل مع الأزمة وتداعياتها بثقة أكبر.
وكان من الطبيعي أن يتسبب انخراط حزب الله في القتال داخل سوريا إلى اتساع نشاط الوحدة 108 نتيجة تزايد الحاجة إلى الأسلحة الضرورية لتغطية المعارك الكثيفة التي كان يخوضها مقاتلو الحزب على كامل الجغرافية السورية.
وقد أصبح لهذه الوحدة شأن كبير مع تزايد الحاجة إلى أدوارها، حتى أنها بدأت بتخزين الأسلحة والذخائر في مستودعات ضمن سوريا. وربما هذا ما أعاد تذكير إسرائيل بالخطر الذي تشكله هذه الوحدة عليها، وجعلها تستنفر قدراتها الاستخبارية والعسكرية والأمنية من أجل تنفيذ مخططاتها السابقة العائدة للعام 2010.
ثمة انطباع لدى الأوساط المقربة من حزب الله في سوريا أن الوحدة 108 التي أصبحت إسرائيل منذ عام 2018 تعرّف عنها باسم الوحدة 4400، شكلت على مدار سنوات صداعاً للاستخبارات الإسرائيلية بسبب تمكنها من نقل العديد من الأسلحة المتطورة والصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة الحديثة إلى مستودعات حزب الله في لبنان، بالإضافة كذلك إلى مهامها المتعلقة بنقل وتحويل الأموال سواء الواردة من إيران أو تلك التي يتم الحصول عليها من تجارة النفط في سوريا أو من استثمارات الحزب الخاصة.
وفي دليل واضح على تزايد نشاط الوحدة 4400 أو 108 في السنوات الأخيرة، بخاصة منذ اندلاع حرب غزة، واتساع قدرتها على تحريك خطوط الإمداد لتعبئة مستودعات حزب الله بالرغم من كل المحاولات الإسرائيلية لعرقلة هذا النشاط أو كبحه، كشف حزب الله في شهر آذار/مارس من العام الجاري عن تزايد تسليحه ومضاعفته "بشكل كبير"، خلال الأشهر الماضية، تزامناً مع تصعيد إسرائيلي عبر استهداف شحنات الأسلحة التي في طريقها للحزب.
وجاء ذلك خلال مقابلة لمسؤول ملف الموارد والحدود في الحزب، نواف الموسوي، مع قناة "الميادين". وقال الموسوي إن "ما كان يخزنه الحزب في نصف سنة عادة، بات اليوم يخزنه خلال شهر واحد".
وأضاف أن "العمل مستمر في فتح مخازن جديدة وملئ المخازن وجلب صواريخ جديدة أكثر دقة ونوعية، براً وبحراً وجواً".
وبالنسبة للبحر، كشف مركز "إنتل تايمز" الإسرائيلي، في تقرير صدر في شهر آذار/مارس، أن "عناصر الوحدة 4400 في حزب الله، التي تعمل في تجهيز الأسلحة الحساسة من خلال وحدات التهريب من سوريا، تنقل المعدات والموارد العسكرية إلى الأراضي اللبنانية عبر ميناء اللاذقية".
وأوضح المركز أنه "منذ بداية الحرب، أفرغت نحو 5 سفن إيرانية بضائعها في سوريا"، مشيرا إلى أن هذه السفن تبحر من ميناء بندر عباس في إيران باتجاه ميناء اللاذقية في سوريا، ثم ترسو لاحقاً في دول أوروبية، مثل إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا ورومانيا.
استهداف الوحدة في سوريا
رجال أمن وطوارئ يتفقدون حطام سيارة انفجرت في دمشق في 21 تشرين الاول 2024 (أ ف ب).
ويمكن القول إن الضربة المزدوجة التي طالت مطار الديماس الشراعي في ريف دمشق في شهر أيلول(سبتمبر) 2022 تعتبر البداية الفعلية لتنفيذ إسرائيل خطتها القديمة/الجديدة بشأن الوحدة 4400، اذ أشار مركز "ألما" الإسرائيلي إلى أن الضربات التي طاولت مطار الديماس في محيط العاصمة استهدفت نشاط الممر الإيراني داخله.
وفي كانون الثاني (يناير ) الماضي، استهدفت إسرائيل ياسر نمر قرنبش في سيارته على طريق دمشق بيروت، وقرنبش كان مرافقاً سابقاً للأمين العام لحزب الله قبل أن يصبح قيادياً في الوحدة 4400.
وقد عادت الطائرات الإسرائيلية إلى استهداف مطار الديماس في شباط (فبراير ) وأيلول(سبتمبر) من العام الجاري. واعتبرت وسائل إعلام إسرائيلية أن هذه الهجمات "لم تستهدف موقعاً عادياً، وإنما موقعاً يبني فيه نصر الله شبكة لتجميع قطع المسيّرات الإيرانية"، إذ أن بعض القطع يتم تصنيعه داخل سوريا، والبعض الآخر في إيران، قبل أن يتم التجميع في سوريا، ومن ثم نقلها إلى لبنان، عبر الوحدة 4400، وفق زعم الاحتلال.
وقد تكثفت الهجمات الإسرائيلية ضد موارد وشبكات الوحدة 4400 خلال شهر سبتمبر/أيلول، وشكلت ضربة مصياف بعد أقل من عشرة أيام لآخر استهداف لمطار الديماس في منتصف هذا الشهر، منعطفاً نوعياً بما اشتملت عليه من إنزال جوي للمرة الأولى لتدمير مصنع يقوم بإنتاج صواريخ دقيقة وطائرات مسيرة لمصلحة حزب الله وفق ما ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقرير له.
علامة فارقة
غير أن شهر تشرين الأول وما تلاه شكّل علامة فارقة في مسار الوحدة 108 أو 4400 نتيجة الضربات الموجعة التي تلقتها سلسلة القيادة في هذه الوحدة. ففي الأول من تشرين الأول (أكتوبر )أعلنت إسرائيل عن اغتيال محمد جعفر قصير المعروف بلقب الحاج فادي، والذي يعتقد أنه تولى قيادة الوحدة منذ ما قبل عام 2010 وحتى اغتياله، وذلك في غارة في بيروت.
ويلقي اغتيال قصير في بيروت ظلالاً من الشك حول مدى علاقته المباشرة بقيادة الوحدة 4400 التي يقع مكتبها الرئيسي في دمشق. وقد يكون المرجح لدى بعض المراقبين أنّ قصير كان قائد الوحدة 108، وأن الوحدة 4400 هي فرع منها يعمل في سوريا.
وفي 21 من الشهر ذاته، أعلنت إسرائيل كذلك عن مقتل القائد الجديد للوحدة ،4400 والذي تبين أن اسمه علي حسن غريب، ويعرف بلقب أيمن أبوحسن.
كذلك، باشرت إسرائيل استهداف مستودعات الأسلحة في الداخل السوري، حيث ضربت مستودعاً قريباً من قاعدة حميميم الروسية بريف جبلة. كذلك، استهدفت في غارات أخرى مستودعات في حمص وحماة، وذلك في مؤشر الى أنها لن تكتفي باستهداف قيادات الوحدة 4400، بل بكل ما يتعلق بها من شبكات ومستودعات ومكاتب.
وهو ما جعل حي المزة الراقي في قلب دمشق يتعرض لأربع غارات عنيفة في شهر تشرين الأول/أكتوبر أسفرت عن اغتيال عدد من قادة الوحدة 4400. وذكرت معلومات أن الغارة التي ضربت بنايات 14 في حي الشيخ سعد بدمشق قتل فيها الحاج سامر، أحد المسؤولين في هذه الوحدة، بينما اكتفت السلطات السورية بالإعلان عن أسماء الشهداء المدنيين، بينهم أستاذ جامعي يمني الجنسية مع عائلته.
وبالرغم من كل ما يشاع حول فتور العلاقة بين السلطات السورية ومكاتب حزب الله في سوريا، فإنه من غير المتوقع أن يستغني حزب الله عن نشاطه في الساحة السورية عبر الوحدة 4400 بسبب حاجته القصوى إليها في حرب قد يطول مداها الزمني أكثر من جميع التوقعات، ولكن مما لا شك فيه أن سلسلة الاستهدافات السابقة ستجعله يفكر في إدخال تغييرات جذرية على هيكلة وأداء هذه الوحدة كما فعل بعد اغتيال عماد مغنية عام 2008.